د. محمد سعيد شحاتة
يبدو أن قصيدة "امرأة لا تحبك بالمرة" لا تُكتب في اللغة فحسب؛ بل تكتب اللغة ذاتها من جديد، في ما يشبه ما وصفته هيلين سيكسو في مقالها "ضحكة الميدوزا"، حين دعت النساء إلى أن يكتبن بجسدهنّ، أي أن يخلقن لغةً نابعة من التجربة الأنثوية الحُرة، لا من منطق الذكورة السائد، إنها ليست نصًا عن الحب، ولكنها نصّ عمَّا بعد الحب، عن تلك المساحة الدقيقة التي تنفصل فيها الكينونة عن الذاكرة، فيولد وعي جديد بالذات الأنثوية خارج ظلال الرجل، وخارج شروط الثقافة التي صاغت معنى الأنوثة لعصورٍ طويلة.
وكما تقول سيمون دي بوفوار "لا تولد المرأة امرأة، وإنما تُصبح كذلك"؛ فمنذ فجر الشعر العربي كانت المرأة تُنادى ولا تتكلّم، وتُوصَف ولا تصف، وتُصبح مرآةً يُختبر فيها وعي الرجل بذاته.
وفي قصيدة "امرأة لا تحبك بالمرة" يحدث انقلابٌ ناعمٌ؛ فالمرأة لا تردّ على الرجل؛ بل تنسحب من لغته، فلا جدال، ولا عتاب، ولا شوق؛ بل وعي صافٍ يعلن أن السكوت ليس خضوعًا؛ بل اكتفاء، وهنا تتجلى الفلسفة العميقة للنص، وهي أن التحرر الحقيقي لا يُصاغ بشعارات، ولكنه يُمارس في البنية الهادئة للحضور، أي في بنية الحياة ذاتها، كما يرى ميشيل فوكو أن السلطة ليست مؤسسية فحسب؛ بل هي شبكة من الخطابات والسلوكيات اليومية، إنّ ما يجري في هذه القصيدة هو أكثر من تجاوزٍ لعلاقة عاطفية، إنه تجاوز لأنماط التفكير التي جعلت المرأة أسيرة الدائرة العاطفية ذاتها؛ فالقصيدة ليست عن نسيان رجل؛ بل عن تحرير الزمن من تاريخه الذكوري، كما تشير جوديث بتلر في حديثها عن الهوية الجندرية إلى أن «الزمن هو أداة قمع حين يُقاس وفق معايير الذكورة" هنا، تحرّر المرأة زمنها الخاص: لا تنتظر، لا تبرّر؛ بل تصنع إيقاعها الداخلي الذي يقيس وجودها على وعيها، لا على انتظار الآخر، وليست القصيدة عن الغياب؛ بل عن اختراع نوع جديد من الحضور، حضور لا يُعرَّف بالمقارنة، ولا يتأسس على النقص؛ بل ينبثق من الداخل بوصفه كينونة مكتفية بذاتها، إن الوعي الذي تنبض به هذه القصيدة هو وعي ما بعد الفقد، وعي المرأة التي لم تعد تنتظر من الآخر اعترافًا كي توجد؛ بل أدركت أن الوجود لا يُعطى من الخارج، وكما تقول لوس إريغاراي "ينبغي للمرأة أن تستعيد صمتها كي تسمع صوتها الداخلي" هي لا تنكر الماضي، لكنها تُعيد تأويله دون ألم، وهذا بالضبط ما يجعل النص عملًا فلسفيًا في جوهره؛ إذ يعبّر عن الانتقال من مرحلة الإنسان المنفعل إلى الإنسان الواعي بفعله، وفي هذه القصيدة، يتحول الحزن إلى معرفة، والذكريات إلى رمادٍ خصب يولّد منها معنى جديدًا للحرية، هذا تمامًا ما قصده جان بول سارتر حين قال إن "الحرية ليست ما نملكه؛ بل ما نصنعه من أنفسنا" إنها لحظة نادرة في الأدب العربي الحديث أن تكتب المرأة نصًّا لا عن الحب ولا ضدّه؛ بل عن التحرر من الحاجة إلى أن تكون محبوبة، وهذا هو ذروة الوعي النسوي والوجودي معًا، أن تُدرك المرأة أن وجودها ليس ردّ فعل، ولكنه فعلٌ خالص للحياة ذاتها، وكما يقول نيتشه في هكذا تكلم زرادشت "يجب أن تحمل روحك لا من أجل نيل المحبة؛ بل من أجل خلق المحبة" ترسم القصيدة صورة امرأة تحررت من علاقة سابقة، امرأة تجاوزت الحب بكل تفاصيله الصغيرة التي كانت تستهلكها يومًا، ولم تعد تهتم بالماضي، ولا بالرجل الذي كان يومًا محورًا لعاطفتها، هي قصيدة عن الشفاء الكامل من الوجع العاطفي، وعن نهاية التعلق وبداية الاستقلال العاطفي والصفاء الداخلي.
1 – تفكيك مركزيّة الذكر واستعادة السيادة على الانتباه
أوّل ما تفعله القصيدة نسويًا هو نزع الرجل من مركز الكون العاطفي للمرأة، والنسوية هنا ليست خصومة مع الذكر بقدر ما هي إعادة توزيع لقوّة الانتباه، من كونه موردًا تُستنزف منه المرأة إلى كونه اختيارًا واعيًا تُديره هي، وهذا التحوّل يهاجم بنية ثقافية طالما افترضت أنّ المرأة تراقب الرجل وتُعرّف ذاتها عبره.
لقد وصفت سيمون دي بوفوار هذا الوضع حين قالت "إن الرجل هو الذات، وهو المطلق، أمّا المرأة فهي الآخر" وهذا التحوّل يهاجم بنية ثقافية طالما افترضت أنّ المرأة تراقب الرجل، وتُعرّف ذاتها عبره، والقصيدة تُحيل الذكورة من مرجع معنى إلى تفصيل عابر، فتستعيد المرأة حقها في قرار: ما الذي يستحقُّ من وعيها؟ وما الذي لا يستحق؟
تاريخيًا، يُفرَض على المرأة أن تُطابق ذائقتها مع تحوّلات الرجل الجسدية والرمزية، ويُنتظر منها أن تلاحظ وأن تمنح التغيّر قيمته عبر التصفيق أو الخيبة، وقد بيّنت هيلين سيكسو في مقالها ضحكة الميدوزا أن هذا التقييد يحوّل المرأة إلى “صدى لصوت الرجل” وأن التحرر يبدأ بامتلاك صوتها ولغتها الخاصة والتمهيد هنا يذكّر بأنّ الذائقة الأنثوية حُوصرت طويلًا في وظيفة التعليق على الرجل، حتى غدا جسده خشبة عرض لاهتمامها، تقول الشاعرة:
لا يعنيها إن أطلقت لحيتك
أو حلقتها
الجملة تنزع الشرعية عن هذا الترتيب، و"لا يعنيها" صيغة سيادية، تضع معيارًا جديدًا، وهو أن مظهر الرجل ليس مرجع تفاعلاتها، ومن منظور نسوي، هذا تفكيك لنظرة المراقِبة المكرهة التي خُلِقت لتخدم مركزية الذكر، كما ترى لوس إريغاراي أن "المرأة حين ترفض أن تكون مرآةً للرجل، فإنها لا تهاجمه بل تعيد تعريف الرؤية" واللامبالاة ليست برودًا، إنّها سياسة انتباه مقاومة، تعلن أن الجسد الذكوري لا يحدّد إيقاع مشاعرها ولا يفرض عليها واجب الاستجابة.
وإذا كانت الثقافة الرومانسية السائدة تُشرعن حق الرجل في الحرية السردية: يسهر، ويكتب، ويغامر، وتحيل المرأة إلى قارئة قلقة تتتبّع أثره، فإن هنا نتذكّر كيف جرى تجنيد النساء تاريخيًا لعملٍ مراقِب: جمع الأدلة العاطفية، والتأويل، والانتظار، تقول الشاعرة:
ولا إن كنت الآن تسهر مع أصدقائك
أو تكتب عن إحداهن قصة
في منتصف الليل
القصيدة تقطع مع هذا التكليف القسري، ونفي الاهتمام بسهره أو كتابته عن أُخريات يفكك وهمًا يرتكز عليه اقتصاد الغيرة الذي يضمن استمرار مركزية الذكر، وكما تؤكد جوديث بتلر، فإن "السلطة الأبوية لا تُمارَس فقط عبر القوانين؛ بل عبر الأنماط العاطفية التي تحدّد من يُنتظر ومن يُراقَب" من هذا المنطلق تنتقل المرأة من موقع الشرطي العاطفي إلى ذات مكتفية ترفض أن تُساق إلى مسرح المقارنات، إنها لا تسحب اعترافها فحسب؛ بل تسحب مشروعية اللعبة نفسها.
أما التفتيش في الصور فهو طقس ثقافي لأنثى دُرِّبت على قراءة ملامح الذكر كما لو كانت نصًا مقدّسًا، وفي الخلفية بنية هيمنة تجعل من ندمه شهادة تبرّئ ألمها أو تُثبته، تقول الشاعرة:
امرأة لا تفتش في صورك القديمة
بحثا عن ندم محتمل في عينيك
إن الامتناع عن التفتيش يعلن قطيعة معرفية؛ فهي لا تحتاج إلى اعتراف بصيغة الندم كي تُصادِق على تجربتها، وهذا ما وصفته فاطمة المرنيسي في تحليلها لبنية الحريم الرمزية حين قالت "الأنثى حين تعيد تعريف ذاكرتها دون إذن الرجل، فهي تمارس فعلًا ثوريًا ضد الذاكرة الجمعية" في ضوء ذلك، يتحوّل الامتناع في القصيدة إلى إنتاج للمعرفة الذاتية، فالمرأة هنا تُعيد تعريف الحقيقة بدون وساطة النظرة الذكورية، أي أنه انتقال من شرعية يُمنحها الرجل إلى شرعية تُنتجها الذات، وهنا تستعيد المرأة حقّها في تعريف الحقيقة بدون وساطة النظرة الذكورية، فتطيح بامتياز رمزي طالما احتكر تأويل الماضي.
2 – تفريغ العمل العاطفي غير المدفوع الذي فُرض على النساء
وصفت النسويات عبئًا مستترًا تتحمّله النساء، وهو ما يسمى بالعمل العاطفي، أي تنظيم المشاعر، والاعتذار، والإسناد النفسي للرجل، وهو شكل من أشكال العمل غير المرئي الذي يثبت البنية اللغوية داخل الحياة اليومية، تقول أرلي راسل هوشيلد في كتابها إدارة القلب "النساء يقمن بعمل عاطفي مضاعف، مرة في المجال المهني ومرة في المجال المنزلي، وهو عملٌ غير مدفوع الأجر، لكنه يحافظ على استقرار النظام الاجتماعي" والقصيدة هنا تُجهِز على هذا الدور؛ إذ تعلن إنهاء عقدٍ غير مكتوب كان يُلزم المرأة برعاية هشاشة الرجل كأنها وظيفة منزلية إضافية، وحفظ الأصوات وإعادة تشغيلها شكل من أشكال الخدمة الشعورية: صيانة الذكرى، وتغذيتها، وتشحيم آلة الحنين؛ كي لا تصدأ العلاقة في الذاكرة، إن إبطال هذه الممارسة يساوي التوقّف عن تمويل بنك العاطفة الخاص بالرجل، كما تقول سيمون دي بوفوار حين تصف علاقة المرأة بالآخر في المجتمع الأبوي "إنها تُعطي عواطفها لتجد ذاتها في عيون الرجل، فيغدو حبها شكلًا من العبودية الطوعية"، تقول الشاعرة:
لا تحفظ صوتك،
ولا تعيد سماع المقاطع التي أرسلتها إليها
إن إبطال هذه الممارسة يساوي التوقّف عن تمويل بنك العاطفة الخاص بالرجل، إنها تقطع انسياب الطاقة النسائية نحو الماضي، ونسويًا، هذا انسحاب من وظيفة أرشفة الرجل وجدولته وجدْولة غيابه، وينقلب الأرشيف من عبء واجب إلى اختيار معدوم الفائدة، فتتحرّر مواردها الذهنية.
كم من مرّة تُصوَّر المرأة كمنقذة وجودية؟ تُختزل إلى أداة لملء فراغ الذكر، لتُصبح “مشروع إصلاح” دائم لمشاكله الوجودية، تقول الشاعرة:
ولا تفكر كيف تنقذك من فراغك
فهي ببساطة لا تراك
السطر السابق يقطع هذا الإكراه الأخلاقي؛ فليس عليها إنقاذ أحد، وجملة "لا تراك" لا تعني إنكار إنسانيته؛ بل رفض تحويل ذاتها إلى مستشفى طوارئ لقلقه، وهنا تتقاطع القصيدة مع ما عبّرت عنه نوال السعداوي في المرأة والجنس “جعل المجتمع من المرأة ممرضةً دائمة لجرح الرجل، لا لذاتها، وكأن رحمتها واجب لا اختيار" من هذا المنطلق تفكّك القصيدة تحالفًا بين الرومانسية والبطريركية، أي أن تكون المرأة صمّام أمانٍ شعوري للمجتمع، إنها تُعيد توجيه أخلاق العناية لتبدأ من الذات لا من مطالب الامتياز الذكوري، وتحويل الرسائل إلى وثائق يقنن العمل العاطفي: الأرشفة، والحفظ، والاستدعاء كأدلة في محكمة الذاكرة، وهو يُكبّل المرأة بواجب قانوني-وجداني مستمر، تقول الشاعرة:
لا تعتبر رسائلك القديمة وثائق حب
إن رفض التوثيق هنا ليس محوًا للتجربة، ولكنه تحرير لها من نظام إثبات يُلزمها بالدفاع عن مشاعر مضت، وهذا ما تشير إليه جوديث بتلر عندما ترى أن "الذاكرة الأنثوية لا تستعيد نفسها إلا حين تتحرر من الحاجة إلى الشهادة على الألم" من منظور نسوي، هذا تفكيك لسلطة النص الذكوري/رسائله على سرديتها؛ فهي لا تُخضع حاضرها لأختام قديمة، ولا تُدين نفسها بديون عاطفية مستحقة السداد.
وبذلك، تُعيد القصيدة تعريف معنى العناية؛ فالعناية لم تعد واجبًا أخلاقيًا تُمارسه المرأة تجاه الرجل؛ بل أصبحت فعل وعيٍ تمارسه تجاه نفسها، إنها تنقل الرعاية من فضاء الامتثال إلى فضاء السيادة، لتعلن أن المحبة الحقيقية لا تُبنى على التضحية؛ بل على الحرية.
3 – نزع أسطرة الحب الرومانسي وتحديث الذائقة الأنثوية
من أبرز التحولات النسوية التي تجسّدها القصيدة نزع أسطرة الحب الرومانسي، ذلك الحب الذي صاغته الثقافة البطريركية كعقيدة وجدانية تُقاس بها أنوثة المرأة وعمقها الأخلاقي؛ فالمرأة في الخطاب الاجتماعي والأدبي لم تُعطَ الحق في الحب؛ بل فُرض عليها أن تحبّ على نحوٍ بعينه: تضحيةً، وذوبانًا، وانتظارًا، كما تشير سيمون دي بوفوار إلى أن "الحب في الثقافة الذكورية ليس تبادلًا؛ بل عبودية طوعية تمجّد الرجل وتُقصي المرأة إلى الهامش" والقصيدة هنا تنقض هذه الأسطورة، وتستبدلها برؤية إنسانية متوازنة؛ فهي لا تحتفي بالحب، ولا تنكره؛ بل تحرّره من سلطته الميتافيزيقية التي جعلت منه معيارًا لقيمة المرأة، تقول الشاعرة:
ولا تعيد تشغيل الأغنية التي كنت تحبها
لتتأكد أنها لم تعد تخصك
إن الأغنية هنا رمزٌ للذاكرة الرومانسية، ذلك الطقس الشعوري الذي يجعل من الألم طقوسًا للوفاء، وإبطالُ هذه الطقوس يساوي إلغاء التقديس الرومانسي للحب، وإعادة الحب إلى إنسانيته الأولى بوصفه تجربة لا عبادة، وقد عبّرت إليزابيث بادينتر عن هذا الوعي الجديد بقولها "تحرر المرأة لا يكتمل ما دامت تبحث في الرجل عن خلاصها الوجداني" من هنا تتبدى القصيدة كفعل عقلنة للعاطفة، لا كإنكار لها؛ إذ تنقل المرأة من عاطفة التأليه إلى وعي التجربة، وإذا كانت الرجفة أسطورة سينمائية أُلصقت بالنساء كدليل صدق الحب، ومقابلها العاديّ اليومي يُحتقر بوصفه انشغالًا سطحيًا فإننا نجد الشاعرة تقول:
حين تراك صدفة، لا يرتجف قلبها،
بل تصلح خصلتها المتساقطة
وتكمل حديثها عن أسعار الكتب
أو أنواع القهوة الجيدة
هذا المشهد الصغير يقلب المنظور الرومانسي بالكامل؛ فالمرأة هنا لا تعيش انكسار الذكرى؛ بل تزاوج بين الفكر واليومي، وبين الجمال والعادي، وكما تقول نوال السعداوي "الحب الحقيقي لا يُلغِي الذات ولا يقدّس الآخر؛ بل يجعل المرأة أكثر حضورًا في واقعها" إنها لا تُخفي ضعفها؛ بل تحتفي بانشغالها العادي، وهذا هو جوهر الأنوثة الواعية التي لا تقيس عمقها بكمية الألم بل بصفاء الوعي؛ فالجمال في هذا المشهد ليس في الرجفة؛ بل في الهدوء، وليس في الدموع؛ بل في ترتيب خصلة الشعر، إن السطور السابقة من القصيدة تقدّم بديلًا جماليًا: اليوميّ قيمة، وإصلاح الخصلة واستكمال الحديث عن الكتب والقهوة ليس هروبًا، إنه إعلان أن معايير الجمال انتقلت من الفيض العاطفي إلى رصانة الذائقة، ونسويًا، هذا انقلاب على معيار الرومانسية القصوى الذي يُقاس به إخلاص المرأة، إنها تُعيد تعريف الرشاقة الوجدانية، وترى أنها خفّة سيادية، لا اهتزاز تابع.
والخيال كان مسرحًا لاستدامة الأسطورة، حيث يَتضخّم الحنين، ويتقدّس الماضي، وعادةً تُتَّهم المرأة بأنّها أسيرة الخيال، ولكننا نرى الشاعرة هنا تقول:
امرأة، حين تمر في خيالها، تبتسم
تبتسم، لا لأنك خفيف الظل،
بل لأنك صرت شيئا من الماضي
لا يستحق الحنين
وهنا تروّض خيالها لصالِحها؛ فهي تبتسم لا عليك؛ بل على قدرتها على إعادة تصنيفك، وهذا تفكيك لأسطورة الحنين كقيمة أنثوية عليا؛ فالابتسامة هنا ليست علامة استهزاء أو نسيان؛ بل إشارة رمزية لمرحلة ما بعد الأسطورة؛ فهي لم تعد أسيرة الخيال الرومانسي الذي يخلّد الماضي؛ بل تحوّلت إلى ذاتٍ متصالحة مع الزمن، وهذا ما تصفه جوديث بتلر حين تقول إن "المرأة حين تبتسم على ماضيها فإنها لا تنفيه؛ بل تُعيد كتابته بمعايير حريتها الحالية" إنها تبتسم لأن الحنين لم يعد قيمة أخلاقية؛ بل لحظة وعيٍ خفيف لا يُنتج ألمًا، أي أن صلاحية الحنين تقاس بجدواه للذات، لا بمكانة الرجل فيها، والخيال يصبح مختبر سيادة، لا حفلة إعادة تمليك للماضي، و بهذا المعنى تتحوّل القصيدة إلى بيانٍ في التحرر من عبادة الوجع، وإعلانٍ أن اكتمال التجربة لا يعني دوامها؛ بل نضجها، وهنا تكمن المفارقة الجمالية في النص؛ فبينما يجعل الشعر الرومانسي التقليدي من الانفعال مقياسًا للجمال، تجعل هذه القصيدة من الحياد قيمة جمالية جديدة؛ فهي تحتفي بقدرة المرأة على أن تحب وتنسى في آنٍ واحد، أي أن تمارس العاطفة دون أن تذوب فيها، وبذلك تُعيد القصيدة تعريف الأنوثة؛ فهي لم تعد قلبًا نابضًا بالانتظار؛ بل وعيًا ينبض بالحياة، إنها تُسقط عن الحب عباءته الأسطورية؛ لتُعيده إلى حجمه الطبيعي، أي أنه تجربة إنسانية لا تحتاج إلى ميثولوجيا كي تُصدَّق، وكما قال أدونيس في الثابت والمتحول "الحب الذي يصبح عقيدة، يتحول إلى سلطة، والشعر حين يحرره من التقديس يعيده إلى صفائه الأول" القصيدة إذن ليست مجرد نص نسوي، ولكنها نص تحريري للشعور الإنساني نفسه، يوازن بين القلب والعقل، وبين الحرية والمسؤولية، وبين البهجة والمعرفة.
4 – سيادة السرد: من موضوع للحبكة إلى كاتبة لقدرها
ثم تأتي المرحلة الأخيرة في المسار النسوي بالقصيدة، وفيها تتحول المرأة من محلّ وقوع الحدث إلى مُنتِجة للحدث ذاته، وإذا كان السرد سلطة فإن من يمتلك القلم يمتلك تعريف البطولة والهوامش، والقصيدة تمنحها هذا القلم، فاللغة التي كانت تاريخيًا أداة لتثبيت التبعية الأنثوية، تصبح في القصيدة وسيلة لتحرير الذات عبر السرد، لقد كانت المرأة كما تقول سيمون دي بوفوار موضوعًا في حكايات الرجل، لا صوتًا داخلها، أما التحرر الحقيقي فيحدث عندما تستعيد المرأة حقها في الكلام، أي في إعادة سرد العالم بلغتها، وفي هذا المعنى تمثل القصيدة تمرينًا لغويًا على السيادة؛ فالمرأة لا تُروى؛ بل تروي، وهنا نجد الشاعرة تقول:
لا تنتظر منك رسالة،
ولا اعتذارًا مؤجلًا،
ولا تبني لك مقامًا صغيرًا في ذاكرتها
تُنهي القصيدة هنا زمن الانتظار السردي الذي حوّل المرأة إلى نقطة سكونٍ في نصٍّ يكتبه الرجل، وإنهاء طقس الانتظار يُعيد الزمن إلى مالكته، والذاكرة ليست معبدًا للرجل، ونسويًا، هذا استرداد للزمن السردي، فهي لا تعيش على وعود التحرير الذكورية؛ بل تحرّر نفسها بإلغاء شروط المسرح الذي كان يُبقيها شاهدة لا كاتبة، إنها ترفض أن تكون صدى الحكاية، وتتحول إلى كاتبة الحكاية، وكما تشير هيلين سيكسو في مفهومها عن الكتابة النسوية، فإن "المرأة حين تكتب، فإنها تُعيد تشكيل اللغة التي نُحتت ضدها" بهذا المعنى يُصبح رفضها للرسائل القديمة فعلَ تأليفٍ جديد، لا مجرّد قطيعةٍ عاطفية، إنها تُعيد ضبط إيقاع الزمن والذاكرة، وتستعيد من اللغة سلطتها الرمزية، والتجاوز عادةً يُروى كملحمة طويلة، ماكرًا في ترسيخ صورة المرأة كمن تلتئم ببطء تحت رعاية الزمن الذكوري، ولكن الشاعرة تقول:
تلك المرأة تجاوزتك
قبل أن تكمل كأس عصير المشمش،
تجاوزتك تمامًا
هذه الصورة البسيطة تُجسّد لحظة ميلادٍ رمزية، إنه تجاوزٌ لا يحتاج إلى صراعٍ ولا إلى انتقام؛ بل إلى وعيٍ فوريٍّ بالفعل، ويذكّر هذا بعبارة جان بول سارتر الشهيرة "نحن ما نفعل، لا ما ننتظر أن يُفعل بنا" المرأة هنا تمارس هذا الوعي، فتجاوزها ليس فعل نسيانٍ؛ بل كتابة لحدودها الزمنية الخاصة، إنها تتحكم في لحظة الانفصال كما تتحكم في معنى اكتمالها، إن اللحظة البرقية "قبل أن تكمل الكأس" تعيد كتابة إيقاع التعافي: ليس ملحمة؛ بل هو قرار، ومن منظور نسوي، هذه سرعة أخلاقية لا سطحية، إنها قدرة على القطع مع استنزافٍ مُمنهج، والزمن يعود أداة بيدها لا قيدًا عليها، والسرعة هنا سياسة جسدية-نفسية تقطع دورات إعادة التعلّق، وللوهلة الأولى، يبدو ختامًا يعيد الرجل إلى مركز البطولة، ولكن النسوية تُحسن قراءة المفارقة السردية: من الذي يكتب؟ ومن الذي يُكتَب عنه؟ تقول الشاعرة:
وكتبت رواية جديدة بطلها "أنت"
إن هذا السطر الختامي من القصيدة هو إعلان سيادة لغوية وسردية مطلقة؛ فمنذ قرونٍ كانت المرأة مادة في نصّ الرجل، من قيس وليلى إلى جميلة في الأغنية العربية الحديثة، حيث تظلّ الحكاية تُروى من منظور الذكر العاشق أو الشاعر، أما في هذه القصيدة فإن الرجل يتحول إلى شخصيةٍ في روايتها، لقد تبدّلت المواقع السردية؛ فالمرأة هي التي تملك فعل الكتابة والتأويل، أي أنها لم تعد رمزًا للعاطفة؛ بل رمزًا للمعرفة، يقول عبد الكبير الخطيبي في كتابه الكتابة والتجربة "الكتابة ليست مجرّد حكاية، إنها سلطة تأويل، ومن يملك التأويل يملك الوجود" بهذا المنظور نقرأ السطر الأخير من القصيدة كفعل فلسفي، فالمرأة تكتب وجودها، لا كما يراها الآخر؛ بل كما تُعيد تعريف ذاتها في اللغة.
إن هذا التحول من موضوع الحكاية إلى كاتبتها لا يُلغي الحب؛ بل ينقله من التبعية إلى التشارك، إنه انتقال من المرأة–الرمز إلى المرأة–الفاعل، من الملهمة إلى المبدعة، وكما تقول فاطمة المرنيسي "حين تكتب المرأة فهي لا تردّ على الرجل؛ بل تؤسّس لنوعٍ جديدٍ من الخيال وفي هذا المعنى تتحول القصيدة إلى وثيقة رمزية عن تحرّر المخيّلة الأنثوية من سجن السرد الذكوري، وجماليًا، يمكن القول إن القصيدة تخلق توازيًا بين السرد والكينونة؛ فكما تحررت المرأة من الانتظار داخل القصة، تحررت كذلك الذات من الانتظار داخل الزمن، لقد تحوّلت الكتابة نفسها إلى فعل وجودي، وإلى مساحة لإعادة توزيع الضوء في النص والعالم معًا، وهو ما عبّر عنه أدونيس حين قال "الكتابة الحقيقية ليست تعبيرًا عن الواقع؛ بل خلقٌ لعالمٍ موازٍ له" بهذه الروح تُمارس الشاعرة حقها في الخلق، فتضع الرجل داخل روايتها بوصفه تفصيلًا إنسانيًا، لا محورًا وجوديًا، وهكذا تبلغ القصيدة قمة الوعي النسوي والفني معًا؛ فالمرأة لا تردّ على الخطاب الذكوري؛ بل تتجاوزه بالكتابة، وهي لا تبحث عن نبرةٍ تنافسه؛ بل تؤسس لغةً جديدة تُعيد توزيع الأدوار داخل المشهد الشعري والوجودي على السواء، إنها لا تطالب بحق الكلام؛ بل تمارس الكلام بوصفه فعلًا سياديًا، فيتحول النص كله إلى بيانٍ خفيٍّ عن سلطة السرد الأنثوي وقدرته على إعادة تعريف الوجود.
إن البطولة هنا محجوبة لصالح سلطة المؤلفة، والرجل بطل كموضوع مكتوب، لا كذات سيّدة، إنها تُحوّل الرجل إلى مادة نصية تقع تحت سيطرتها الجمالية والمعرفية، وبهذا تسترد المرأة جهاز التمثيل نفسه؛ فهي من تختار الزوايا، وتوزّع الضوء والظلال، وتُحدّد خاتمته، إنّها ليست شخصية في روايته، ولكنه هو الذي شخصية في روايتها.
والخلاصة المركّزة: إن القصيدة تُنهي عقد العمل العاطفي الإجباري، وتعيد توزيع الانتباه كقوّة سياسية، وتُسقط أسطرة الرومانسية القصوى لصالح يوميّ أنيق تمتلكه المرأة، وتعيد الزمن والسرد إلى مالكته، فلا انتظار، ولا أرشفة إلزامية، ولا إذن يُستمدّ من ندمه، وفي النهاية فإنها لا تُبطل وجود الرجل؛ بل تُبدّل موقعه من مركزٍ مُستحقّ بالعُرف إلى دالّةٍ تكتبها امرأة سيّدة لذاتها.
إعادة تعريف الجسد والذاكرة كفضاءين للتحرر لا للرقابة
في كثير من الأدبيات النسوية يُنظر إلى الجسد والذاكرة باعتبارهما ساحتي صراع بين السلطة الذكورية والرغبة الأنثوية في الاستقلال، فالجسد في المنظور الأبوي ليس ملكًا للمرأة بل مجالًا لمراقبتها وتحديد هويتها، والذاكرة تُستخدم لتثبيت سردية الخضوع العاطفي، كما تذكر لوس إريغاراي "لقد تمّ جعل جسد المرأة لغة يتكلمها الرجل، وحين تستعيده، فهي لا تستعيد الجسد فقط؛ بل تستعيد معنى الوجود ذاته" والقصيدة، رغم أنها لا تصف الجسد مباشرة، تشتغل على محو آثاره الرمزية من مجال السيطرة الذكورية؛ فهي تنزع عن المرأة جسد المُراقِبة والمُشتاقة، وتحوّله إلى جسد حرّ الحضور، يعيش دون حاجة إلى اعتراف الآخر أو لمس الندم، أما الذاكرة، التي طالما حُمّلت كعبءٍ رمزيٍّ وأخلاقيٍّ، فتُعاد صياغتها في القصيدة كـ مساحة قرارٍ وسيادة، وهذا التغيير يتوافق مع رؤية جوديث بتلر التي ترى أن "تحرير الذات الأنثوية يبدأ من استعادة الحق في تعريف ما يُنسى وما يُتذكّر" بهذا المعنى، تتجاوز القصيدة المستوى النفسي والسردي إلى مستوى الجسد الوجودي، مبيّنة كيف تنجز ثورة مزدوجة: في اللغة من جهة، وفي الإحساس بالجسد والزمن من جهة أخرى.
وهذه الزاوية التحليلية تكمل ما سبق؛ لأنها توسّع التحليل من المستوى النفسي والسردي إلى المستوى الجسدي-الوجودي، مبيّنة كيف تنجز القصيدة ثورة مزدوجة في اللغة وفي الإحساس بالجسد والزمن.
يحمّل المجتمع الجسد الأنثوي عبء التفاعل العاطفي: الرجفة، والارتباك، والعلامة الفيزيولوجية للحب، ولكن الهدوء الجسدي هنا إعلان استقلال عن هذا التصميم البيولوجي الثقافي الذي يربط أنوثة الجسد بتقلب العاطفة، تقول الشاعرة:
حين تراك صدفة،
لا يرتجف قلبها،
بل تصلح خصلتها المتساقطة
وتكمل حديثها عن أسعار الكتب
أو أنواع القهوة الجيدة
حين لا يرتجف القلب، لا يعني الجفاف؛ بل وعيًا بالجسد ككيان حرّ من إشارات الملكية، وإصلاح الخُصلة عملٌ حسيّ بسيط لكنه ذو دلالة، إنها حركة ذاتية، لا ردّ فعل لوجوده، وهذا الجسد يمارس عناية ذاتية لا تزيينًا استرضائيًا، ونسويًا، نحن أمام استعادة الجسد كأداة تعبير عن الاتزان، لا كترمومتر حبّ يقرأ حرارة الرجل في عروقها.
والذاكرة العاطفية عادة تُختزل بين قطبي الشوق والكراهية. كلتاهما تضمنان استمرار وجود الرجل في الوعي الأنثوي، أي في جسدها الداخلي، ولكن الشاعرة هنا تقول:
ولا تفتقدك،
ولا حتى تكرهك
إن النفي المزدوج يفرغ الذاكرة من احتلال الرجل، فيتحول الماضي من حقل ألم إلى فضاء فارغ يمكن أن يُزرع من جديد، وفلسفيًا، هذه ليست لحظة نسيان؛ بل لحظة تحييدٍ وجودي؛ فالذاكرة لا تمحو؛ بل تعيد تهيئة نفسها، وهذا ما أشار إليه ميشيل فوكو حين قال إن "التحرر لا يكون من الماضي؛ بل من السلطة التي تفرض علينا كيف نتذكّره" ومن منظورٍ نسوي، تصبح الذاكرة هنا أداة سيطرةٍ ذاتية لا أرشيف احتلال، وتستعيد المرأة قدرتها على انتقاء ما يسكن في وعيها، وتقول الشاعرة:
تجاوزتك قبل أن تكمل كأس عصير المشمش
إن الفعل "تجاوز" يتصل بالجسد كما بالذاكرة، والتاريخ الثقافي يصوّر تجاوز الحب كمخاض طويل يمر عبر الألم الجسدي، وهنا الزمن يُختصر إلى لحظة، أي إلى قرار جسدي واعٍ، و"كأس عصير المشمش" تفصيل ماديّ يربط التحرّر بحركة جسدية طبيعية: الشرب، والتنفّس، والاستمتاع، والتجاوز لا يتمّ في طقس تطهّر؛ بل في لحظة حياة يومية، وهذا يكشف تحول الجسد من مسرح فداء إلى أداة زمنية تتحكم في إيقاع الشفاء، وفي القراءة النسوية، الجسد لم يعد موقع ألمٍ نبيل؛ بل وسيلة عملية لإعادة الاتصال بالعالم بعد انقطا..
والخلاصة أن القصيدة تحرّر الجسد والذاكرة من اقتصاد السيطرة الذكورية، فالجسد لم يعد مرآة لعاطفة الرجل؛ بل مرجع ذاته، والذاكرة لم تعد مقبرة الحنين؛ بل ورشة بناء جديدة، وبهذا تُكمل القصيدة مشروعها النسويّ، أي تحويل المرأة من كائن يستضيف آثار الآخر إلى كائن يخلق أثره الخاص في الزمن والمكان، وهذا ما عبّرت عنه فاطمة المرنيسي حين قالت: «حين تمتلك المرأة ذاكرتها وجسدها، تمتلك مستقبلها" (الحريم السياسي، ص 116) وسوف نفصل ذلك أكثر في السطور التالية.
أولًا: من الجسد المملوك إلى الجسد الواعي
لا يُوصف الجسد الأنثوي في القصيدة بوصفه موضوعًا للرغبة أو الحنين أو الجمال؛ بل يُشار إليه عبر أفعال الرعاية الذاتية الصغيرة، كإصلاح خصلة شعر، وشرب عصير، والابتسام، وهذه الأفعال البسيطة هي أفعال سيادة في القراءة النسوية؛ فهي ليست جمالية من أجل الآخر، ولا جنسية من أجل اللذة المشتركة؛ بل وجودية من أجل الذات، وهذا يتسق مع ما تؤكد عليه لوس إريغاراي حين تقول "حين تكتشف المرأة جسدها بوصفه كائنًا لغويًا، لا جسدًا للمراقبة أو الاشتهاء، تبدأ فلسفتها الخاصة" إن الجسد هنا يتجاوز ثنائية موضوع/مراقَب إلى فاعل/شاهد، وهو ما يعيد صياغة موقع الأنثى من التمثيل إلى المشاركة الواعية في الوجود، ففي قولها "تصلح خصلتها المتساقطة وتكمل حديثها عن أسعار الكتب أو أنواع القهوة الجيدة" يظهر الجسد في هذه الجملة بوصفه امتدادًا للعقل والوعي، لا أداة لإثبات الأنوثة، والفعل الجسدي "إصلاح الخُصلة" يندمج مع الفعل العقلي "الحديث عن الكتب" فيلتئم ما فرّقته الثقافة بين الأنوثة المادية والذكورة الفكرية، وهذا ما وصفته سيمون دي بوفوار بأنه "تحطيم للانقسام الموروث بين العقل والجسد؛ لأن كليهما يكوّنان الإنسان الحرّ" والقصيدة، بهذا الاندماج، توحّد الكيان النسوي وتفكّك الانقسام الذي فرضه المجتمع على المرأة بين جسدها وعقلها، إنها تُعيد كتابة علاقة المرأة بعقلها من منظورٍ جديد، لا يُقصي الجسد بل يجعله لغة للوعي.
ثانيًا: من الذاكرة الجريحة إلى الذاكرة السيادية
في التقليد العاطفي، الذاكرة تُستعمل كسلاح ضد المرأة نفسها: تذكير دائم، وعودة قسرية إلى الماضي، كأنها محكومة بالاحتفاظ بألمها كبرهان على عمقها، والقصيدة ترفض هذا التكليف الأخلاقي، ففي قولها "ولا تفتقدك، ولا حتى تكرهك" الحياد هنا ليس فراغًا؛ بل هو امتلاء بنوع جديد من السلام، إنها ذاكرة متصالحة، قرّرت ألا تُخزّن الألم كعلامة شرف؛ بل كمعرفة هادئة، كما تقول جوديث بتلر "التحرر من الزمن الأبوي يبدأ عندما تعي المرأة أنها ليست مدينةً للماضي بدموعها" وفلسفيًا، يمكن القول إن الذاكرة الأنثوية في النص تمارس ما يشبه التحرّر من الزمن الخطي، فهي لم تعد أسيرة ماضي رجل بعينه؛ بل استعادت حريتها في الحاضر، وهذا هو جوهر الفعل النسوي في الوعي، أي تحويل الذاكرة من سجلّ للضرر إلى منصة لاختيار المعنى، إنها ذاكرة السيادة لا ذاكرة الخضوع، ذاكرة تبني ولا يندب.
ثالثًا: الجسد والذاكرة كأداتين لإعادة تعريف الزمن الأنثوي
إن الجملة البسيطة "تجاوزتك قبل أن تكمل كأس عصير المشمش" تختزل انقلابًا زمنيًا هائلًا، إنها تُعيد ضبط الإيقاع الوجودي للمرأة، من انتظارٍ طويل إلى لحظة القرار الفوري،
وكما تشير سيمون دي بوفوار، فإن «المرأة تُدرَّب منذ طفولتها على الانتظار: انتظار الحب، الرسالة، الزواج، الاعتذار؛ بينما الحرية هي أن تصنع زمنها بنفسها" وفي الفلسفة النسوية، الزمن الأنثوي غالبًا ما يُوصف بأنه زمن الإرجاء، أي تنتظر الاتصال، والرسالة، والاعتذار، والندم...، ولكن القصيدة تقترح زمنًا نسويًا جديدًا، وهو زمن الفعل، لا الترقّب، وزمن الجسد الحاضر، لا ذاكرة الماضي، وزمن الذات التي تصنع الحدث، لا التي تُنتظر داخل الحدث، وهذا التحوّل الزمني هو ما يجعل القصيدة “راديكالية” بحقّ، إنها تحرّر الإحساس بالزمن من استعمار الحبّ الرومانسي.
رابعًا: التحوّل من الرقابة إلى الحضور
نلاحظ عبر القصيدة غياب كل أدوات المراقبة التقليدية، فهي لا تتفحص الصور، ولا تعيد تشغيل الأغاني، ولا تفتش في الرسائل، إنها تلغي جهاز الرقابة الداخلية الذي زُرع في الوعي الأنثوي ليُبقيها مشغولة بتعقّب أثر الرجل، والنتيجة؟ ميلاد وعيٍ جديد بالحضور، إنها لا تراقب؛ بل تعيش، ولا تنتظر علامة من الخارج لتشعر بأنها موجودة؛ لأن وجودها يكتفي بذاته، وهذه هي النسوية في صورتها الهادئة العميقة، فهي ليست صراعًا مع الرجل؛ بل تصالحًا مع الوجود من دون الحاجة إلى انعكاسه في عيون الآخرين، كما يقول عبد الكبير الخطيبي "التحرر ليس رفض الآخر؛ بل القدرة على النظر إلى الذات دون مرآة" بهذا المعنى يتحول الصمت في القصيدة إلى لغة فلسفية تعبّر عن حضورٍ مكتمل لا يحتاج إلى برهان.
إن هذا التحليل يكشف أن النص لا يكتفي بتحرير المرأة فكريًا أو عاطفيًا؛ بل يسعى إلى تحريرها وجوديًا على مستوى الوعي، والذاكرة، والجسد، والزمن؛ فالمرأة هنا لا تقول "أنا تجاوزتُك" فحسب؛ بل تقول ضمنًا "تجاوزتُ صورة المرأة التي رسمها العالم لك ولي"، وهذا ما يجعل القصيدة ليست مجرد اعتراف عاطفي؛ بل بيانًا نسويًا فلسفيًا عن السيادة الداخلية.
اللغة كفعل وجودي نسوي: من النفي إلى الخلق
اللغة في الفكر الوجودي والنسوي معًا، ليست أداة وصف فحسب؛ بل مكان الوجود نفسه، تقول سيمون دي بوفوار "الإنسان لا يُولد امرأة؛ بل يُصبح كذلك"، وفي القصيدة، نرى كيف أن المرأة لا تتحدث فقط عن تحررها؛ بل تخلقه عبر الكلام نفسه، وكل جملة، وكل نفي، وكل إيقاع، هو خطوة لغوية نحو أن تكون لا كموضوع في نص الرجل؛ بل كفاعل لغوي كامل السيادة.
أولًا: النفي كأداة تحرّر لغوي
اللغة النسوية هنا تُبنى على النفي المتكرر. النفي ليس سلبًا في هذا السياق؛ بل ولادة جديدة للمعنى. في الفلسفة الوجودية، النفي هو شرط الوعي: حين تقول “لا”، فهي تحدّد ذاتها إزاء العالم. والقصيدة تمارس هذا الفعل في كل سطر تقريبًا.
لا يعنيها إن أطلقت لحيتك أو حلقتها
لا تفتش في صورك القديمة
ولا تفتقدك، ولا حتى تكرهك
كل "لا" في النص تمثّل هدمًا لهوية مفروضة وبناءً لهوية مختارة، فهي لا تكتفي بقول "أنا لا أحبك"؛ بل تقول ضمنيًا "أنا أختار أن أكون خارج لغتك، خارج دوائرك السردية"، والنفي المتكرر يعمل كلَبناتٍ لبناء جدار لغوي يحمي الذات من التسرّب الذكوري، ويحوّل “الصمت الأنثوي” التقليدي إلى لغة صريحة ومكررة بوعيها، كما ترى إريغاراي، فإن "المرأة حين تكرّر نفيها، لا ترفض الرجل؛ بل تهدم اللغة التي صيغت ضدها لتبني معجمها الخاص" إنها لغة السيادة الهادئة ترفض دون صراخ، وتتحرر دون إعلان حرب.
ثانيًا: اللغة اليومية كأداة تفكيك للهيمنة
الخطاب الأدبي الكلاسيكي طالما جعل المرأة الشاعرة تتحدث بلغة مثقلة بالعاطفة والرمز، وكان يُطلب منها أن تكون غامضة، وحالمة، وموسيقية؛ لتظل محصورة داخل فضاء الجمال لا الفكر، ولكن هذه القصيدة تختار اللغة العادية، واليومية، والواقعية، والحديث عن القهوة والكتب هو فعل تمرد لغوي ضد نمط اللغة الذكورية التي تحتكر الرصانة والعقل، تقول:
تكمل حديثها عن أسعار الكتب
أو أنواع القهوة الجيدة
حين تستخدم المرأة اللغة اليومية فهي لا تُبسّط الشعر؛ بل تُنزله من برجه الذكوري العالي إلى العالم الواقعي الذي تسيطر عليه، والقهوة والكتب ليستا تفاصيل عابرة، إنهما رمزان لثقافة الذات المفكّرة والمتعة الواعية، كما تقول نوال السعداوي "حين تكتب المرأة عن تفاصيلها اليومية، فإنها تكتب فلسفتها الخاصة في الحياة، لا اليوميات الصغيرة كما يظن الرجل" وبهذا تتحول اللغة من أداة تمجيد للرجل إلى أداة تمكين للمرأة تكتب ذاتها في لغة الحاضر، لا في استعارات الفقد، إنها تُعيد توزيع السلطة داخل اللغة نفسها، فتجعل الواقعي مسرحًا للفكر.
ثالثًا: تحويل الخطاب من الحنين إلى الخلق
الفعل "كتبت" هنا ليس مجرد حدث سردي، ولكنه إعلان سيطرة لغوية كاملة؛ فالمرأة التي كانت موضوعًا في قصة الرجل أصبحت هي من تكتب القصة، وتعيّن “الأبطال” وفق منظورها، والكتابة نفسها فعل ولادة، وهي الصورة الرمزية الأعلى للخصوبة اللغوية في النسوية المعاصرة، تقول "وكتبت رواية جديدة بطلها أنت"، يرمز هذا المقطع من الناحية الفلسفية إلى الانتقال من لغة التلقي إلى لغة الخلق، إنها تكتب لا لتخلّد الرجل؛ بل لتستعيد الحكاية من يده، ومن منظور وجودي، الكتابة هنا هي تجسيد لحرية الوعي،
كما يقول هايدغر: «اللغة هي بيت الكينونة، ومن يسكن هذا البيت يمتلك العالم" وهي الطريقة التي تقول بها: أنا موجودة لأنني أتكلم، لا لأنك تذكرني، ومن منظور نسوي لغوي، على خطى هيلين سيكسو ولوك إريغاراي، القصيدة تُمارس ما يمكن تسميته الكتابة بجسد الوعي الأنثوي، أي كتابة لا تشرح؛ بل تُنجب المعنى من التجربة.
رابعًا: اللغة كمساحة خلاص وجودي
تتحول اللغة عبر هذا النسيج الهادئ، إلى ما يسميه هايدغر بيت الكينونة، ولكن في هذا النص، هو بيت أنثوي أُعيد ترميمه بعد أن كان مسكونًا بأصوات الآخرين، ولم تعد اللغة وسيلة لتبرير الحب أو شرح الوجع، ولكنها صارت مكانًا تسكنه امرأة تعرف أنها لا تحتاج إلى الشرح، وهي تكتب لأنها تعيش، لا لأنها تبرّر، كما كتب عبد الكبير الخطيبي "الكتابة هي شكل من أشكال الخلاص، وليست استسلامًا، هي إعادة امتلاك اللغة التي سُرقت منّا" وهكذا يصبح الشعر ذاته طقس تحرّرٍ لغويٍّ ووجودي، تعود فيه الكلمة إلى وظيفتها الأولى، أي أن تكون الكلمة حياة.
خامسًا: النتيجة الوجودية والنسوية للغة القصيدة
إن النفي يعيد تعريف الذات كقوة حرّة تحدّد مجالها، واللغة اليومية تُسقط هالة الشعر الذكوري الفخم لصالح صدق الحضور الأنثوي، والكتابة تصبح فعلًا خلاقًا يغيّر التراتبية: الرجل يُكتب لا يكتبها، والصمت نفسه بين الجمل يتحول إلى فضاء وجودي صافٍ، لا خوف فيه ولا انتظار، وكما تقول جوديث بتلر: «التحرر ليس في الصراخ؛ بل في إعادة كتابة الصمت ليصبح وعيًا" (الذات تصف نفسها، ص 127) وبذلك تكون القصيدة قد أنجزت أعمق تحوّل لغوي، من أنثى تُوصف بلغة الآخر إلى أنثى تخلق لغتها الخاصة.
والخلاصة أن القصيدة، من منظور نسوي-وجودي، ليست فقط رواية نسيان، إنها تجربة لغوية في أن تكون، فكل "لا" فيها هي ولادة، وكل جملةٍ عاديةٍ هي ثورة صامتة، لقد استعادت المرأة لغتها كما استعادت جسدها وذاكرتها؛ لتؤكد أن التحرر الحقيقي لا يبدأ من الخارج؛ بل من الكلمة التي تختارها المرأة لتسكن فيها ذاتها، وهذا ما عبّرت عنه دي بوفوار بدقّة حين قالت "حين تكتب المرأة عن نفسها، فإنها تكتب عن الإنسانية كلّها من زاوية حريتها الخاصة".
تفكيك البنية الثقافية للهيمنة الذكورية/المرأة بين ثقافة الامتلاك وثقافة الاستقلال
العلاقة بين الرجل والمرأة في المجتمعات العربية، والأبوية عمومًا، ليست مجرد تفاعل عاطفي، ولكنها نظام اجتماعي-ثقافي متكامل يقوم على ثلاثة ركائز أساسية، الركيزة الأولى هي الامتلاك الرمزي، أي أن تكون المرأة موضوعًا في خطاب الرجل، والركيزة الثانية هي المراقبة الأخلاقية، وهي أن تُقاس قيمتها بقدرتها على الولاء، والانتظار، والتضحية، والركيزة الثالثة التمثيل الثقافي، وهي أن تُعرَّف من خلال صورتها في عينيه، لا من خلال ذاتها، والقصيدة هنا تمارس عصيانًا لغويًا وثقافيًا ضد هذه الركائز الثلاث، وتعيد ترتيب علاقة المرأة بالمجتمع والسلطة والمعنى.
أولًا: إسقاط ثقافة الامتلاك الرمزي
تُربَّى المرأة في الثقافة العربية التقليدية، على أن تراقب الرجل لتضمن بقاءها في مدار اهتمامه. هذه الرقابة لا تأتي من طبيعة أنثوية؛ بل من نظامٍ اجتماعي يغرس في وعيها فكرة أن وجودها مرهون بانعكاسها في عيني الرجل، والقصيدة تقلب هذه المعادلة، فلم تعد المرأة تدور حوله؛ بل تضع نفسها في مركزٍ مستقل، وتُعلن أن أفعاله ومغامراته لا تُغيّر في كينونتها شيئًا، تقول الشاعرة:
امرأة لا يعنيها إن أطلقت لحيتك
أو حلقتها،
ولا إن كنت الآن تسهر مع أصدقائك
أو تكتب عن إحداهن قصة في منتصف الليل
هذا الموقف ليس فقط استقلالًا عاطفيًا، ولكنه أيضًا تحرر رمزي من بنية الامتلاك التي تجعل الرجل مرجع الواقع، وكما تكتب فاطمة المرنيسي "في المجتمع الأبوي، يُمنح الرجل حقّ التسمية، لأن من يُسمّي يمتلك المعنى، والمرأة تبدأ تحررها عندما تقول لا أحتاج إلى اسمك لأكون" والمرأة هنا لا تتمرّد على رجلٍ بعينه؛ بل على نظامٍ ثقافيٍّ يمنح الرجل سلطة التسمية والتعريف، فهي تقول ضمنيًا "لن أعرّف نفسي بما تفعل؛ بل بما لا يعني لي ما تفعل" وهذه مفارقة فلسفية عميقة، فالحياد نفسه يصبح فعل مقاومة.
ثانيًا: تحطيم منظومة “الولاء الأخلاقي” المفروض على النساء
الثقافة الأبوية لا تكتفي بأن تملك الجسد الأنثوي؛ بل تزرع في الوعي الجمعي أخلاق الخدمة أي أن يُفترض في المرأة أن تكون مخلصة، مُسامِحة، راعية، ومنقذة، كما تلاحظ نوال السعداوي "المرأة تُدرَّب على الإيثار حتى تفقد ذاتها، فيتحول حبها إلى واجب اجتماعي لا حرية شخصية" كل حبٍّ فاشل يصبح امتحانًا لأخلاقها، لا لأخلاقه، لكن القصيدة تُجْهِز على هذا التكليف الأخلاقي عندما تقول:
لا تفكر كيف تنقذك من فراغك،
فهي ببساطة لا تراك
لا تعتبر رسائلك القديمة وثائق حب
هنا تنقلب الأخلاق المفروضة إلى أخلاق جديدة قائمة على الرعاية الذاتية، فهي لا تراه، لا لأنها لا تبالي بالإنسان؛ بل لأنها توقفت عن التضحية الدائمة من أجل الآخر، وهذا ما وصفته جوديث بتلر بأنه «إعادة توجيه للأخلاق من الإيثار القهري إلى الوعي بالذات" القصيدة بذلك تُنهي عقد الخدمة العاطفية المجانية الذي كرّسته الثقافة الذكورية، وتقول بصوتٍ هادئ "أنا لستُ الممرضة النفسية لفراغك الوجودي" وبهذا المعنى فإن القصيدة لا تهاجم الرجل كشخص؛ بل تفكك فكرة التضحية الأنثوية كمقدّس اجتماعي.
ثالثًا: إعادة تعريف الشرف والذاكرة والكرامة
في البنية الثقافية السائدة، عاطفة المرأة تُقاس بعمق انكسارها، وكلما كانت أكثر وجعًا، اعتُبرت أكثر صدقًا ووفاءً، إنها منظومة تجعل من الوجع الأنثوي معيارًا أخلاقيًا، بحيث يُنظر إلى النسيان واللامبالاة بحسبانه عيبًا أو جحودًا، تقول الشاعرة:
ولا تفتقدك، ولا حتى تكرهك
حين تراك صدفة، لا يرتجف قلبها،
بل تصلح خصلتها المتساقطة
وتكمل حديثها عن أسعار الكتب
أو أنواع القهوة الجيدة
إن القصيدة تُقدّم نموذجًا جديدًا: الكرامة كهدوء، لا كدراما، حين لا يرتجف قلبها، لا يعني ذلك نقص الحب؛ بل اكتمال الوعي، إصلاح الخُصلة ومتابعة الحديث عن الكتب والقهوة إعلان أن الأنوثة ليست استعراض وجع؛ بل حضورًا متوازنًا، والمرأة هنا تُعيد تعريف الشرف الداخلي، فهو ليس شرف الطاعة أو الولاء؛ بل شرف القدرة على تجاوز الألم دون الحاجة إلى ضجيجٍ يثبت الطهر أو الوفاء، وبهذا تهدم القصيدة مفهوم المرأة النبيلة التي تتألم بصمت، وتستبدله بمفهوم المرأة الحرة التي تختار الصمت لأنها شُفيت.
رابعًا: نقد المجتمع الاستهلاكي للعاطفة
لقد حوّل العصر الحديث العلاقات إلى منتجات رمزية: الرسائل، الأغاني، الصور، كلها أصبحت “أصولًا عاطفية” تُخزَّن في الذاكرة وتُتداول، وفي هذا السياق تُستدرج المرأة إلى أداء دور المستهلكة المخلصة للذكرى، تقول الشاعرة:
لا تنتظر منك رسالة،
ولا اعتذارًا مؤجلًا،
ولا تبني لك مقامًا صغيرًا في ذاكرتها
تُسقط القصيدة هذا الاقتصاد العاطفي، فلا تنتظر رسالة؛ لأن الرسالة لم تعد عملة رمزية تستحق الصرف، ولا تبني مقامًا؛ لأن الحنين لم يعد سلعة تُروّج في سوق الذكريات، كما يوضح ميشيل فوكو أن "السلطة الحديثة تعمل عبر اقتصاد الرموز أكثر من القهر المباشر، والمقاومة الحقيقية تكمن في تعطيل هذا الاقتصاد" ومن منظور اجتماعي نسوي فإن هذا تمرّد على منظومة العاطفة الاستهلاكية التي تفرض على النساء الاحتفاظ بكل شيء كدليل على الأصالة، والمرأة هنا تمارس حقّها في الإتلاف الواعي، إتلاف الرسائل، والأغاني، والصور، أي إتلاف الهيمنة الرمزية.
خامسًا: المجتمع في مواجهة نموذج جديد للمرأة
لا تزال الثقافة العربية تميل إلى تمجيد المرأة التي تبكي الرجل، لا تلك التي تتجاوزه، والمرأة التي تكتب رواية جديدة تعتبر قاسية، ومغرورة، أو ناقصة العاطفة وفق مقاييس المجتمع، ولكن القصيدة تجاوزت ذلك، تقول الشاعرة:
تلك المرأة تجاوزتك
قبل أن تكمل كأس عصير المشمش،
تجاوزتك تمامًا،
وكتبت رواية جديدة بطلها أنت
يقلب النصّ هذا المعيار، والمرأة التي تجاوزت ليست ضحية ناقصة، ولكنها كائن مكتمل النضج، وكما تقول فاطمة المرنيسي "حين تكتب المرأة قصتها، تكتب تاريخًا جديدًا، لأن التاريخ القديم كان يُروى ضدها" وهي حين تكتب رواية بطلها “أنت”، فإنها لا تمجّده؛ بل تحيّده داخل نصّها الخاص، تضعه في موقع الشخصيّة لا المركز، إنها لا ترفض الذكورة ككيان؛ بل ترفض سلطتها الرمزية على السرد، ومن منظور ثقافي فإن الكتابة هنا هي إعلان دخول المرأة في مرحلة ما بعد الأبوة؛ إذ لم يعد الرجل هو المؤرخ ولا المفسّر ولا الخاتمة، ولكنه أصبح مجرد تفصيل في خطابها الذاتي، إنها لا ترفض الذكورة ككيان؛ بل تحدّد موقعها منه بوعيٍ وسيادة
سادسًا: النتائج الاجتماعية-النسوية لهذه الزاوية التحليلية:
من النتائج التي يمكن رصدها من خلال التحليل السابق وجود تحوّل في معايير الفضيلة من الولاء والانتظار إلى الوعي والاختيار، وتحوّل في بنية القوة من الخارج/الرجل/المجتمع إلى الداخل/الذات الأنثوية، وتحوّل في الخطاب العام من خطاب الرثاء إلى خطاب البناء، وتحوّل في الذاكرة الجماعية من تمجيد الألم إلى تمجيد التعافي، بذلك، تتحول القصيدة من مجرد نص شعري إلى بيان ثقافي مضاد للبنية الأبوية، يقدّم صورة جديدة للمرأة العربية المعاصرة، فهي هادئة، ومثقفة، وقادرة على تجاوز الماضي دون أن تُعلن الحرب على أحد، وهي امرأة تعرف أن الثورة الحقيقية لا تُمارس في الشوارع؛ بل في اللغة، والذاكرة، والاختيار اليومي، كما ترى نوال السعداوي، وهكذا تكتمل رسالة القصيدة: ثورة هادئة، لغتها الوعي، وميدانها الكلمة.
الجماليات النسوية في القصيدة: الشكل بوصفه وعيًا مضادًا
في تاريخ الأدب غالبًا ما تمّ اختزال المرأة إلى موضوع الجمال، لا مبدع الجمال، والقصيدة التي نحلّلها تنقلب على هذا الإرث عبر تحويل الجمال إلى خطاب سيادة، فالشكل الجمالي لا يزيّن المعنى بل يخدم الوعي الأنثوي القائم على الهدوء، الوضوح، والتمهل، وهذا هو جوهر الجمال النسوي الحديث: جمال يتجاوز الزخرفة إلى الوعي.
أولًا: إيقاع الهدوء كجمال للمسافة
القصيدة لا تعتمد على موسيقى صاخبة أو إيقاعٍ احتفالي؛ بل تستثمر في إيقاعٍ هادئ، شبه ساكن، يعكس سكينة ما بعد الألم، وهذا الهدوء ليس برودًا فنيًا؛ بل اختيار جمالي متعمّد يترجم النضج الداخلي للمرأة، تقول الشاعرة:
امرأة حين تمر في خيالها،
تبتسم.
تبتسم، لا لأنك خفيف الظل،
بل لأنك صرت شيئًا من الماضي
لا يستحق الحنين
التكرار في "تبتسم. تبتسم" يشبه أنفاسًا متزنة، لا نشيجًا ولا لهاثًا، إنه إيقاع الاستقلال، لا حاجة للعاطفة كي تثبت وجودها، ومن منظور جمالي نسوي، الهدوء هنا شكلٌ من المقاومة؛ فالثقافة الأبوية تنتظر من المرأة انفعالًا كي تثبت أنوثتها، والقصيدة تردّ بهدوءٍ محسوب: السكينة هي ثورتي، والقصيدة بهذا المعنى تكتب إيقاع الشفاء، لا إيقاع العشق.
ثانيًا: البنية التكرارية كاستراتيجية بلاغية للمحو والسيطرة
التكرار أحد أبرز ملامح النص، وهو ليس تكرارًا عاطفيًا؛ بل بنية طقسية للتحرر، وفي الشعر الذكوري الكلاسيكي كان التكرار غالبًا وسيلة تأكيد على التعلق والوجع، أما هنا فهو وسيلة لتنظيف اللغة من أثر الرجل، تقول الشاعرة:
لا يعنيها...
لا تفتش...
لا تعيد...
لا تحفظ...
لا تتخيلك...
لا تفتقدك...
كل "لا" من هذه اللاءات هي إزاحة صوتية ترسم دوائر من النفي حول مركزٍ كان يحتله الآخر، ومن منظور بلاغي يتخذ التكرار وظيفة تطهيرية، إنه طقس لغوي تستعمله المرأة لتُعيد كتابة الصمت بلغة إيجابية، ويتحوّل الإيقاع إلى نوع من المانترا النسوية، فكل تكرار خطوة نحو الحياد الكامل، وهكذا يصبح الشكل نفسه فعلًا من أفعال التحرر، أي أن الجمال هنا ليس زينة؛ بل طريقة للمقاومة.
ثالثًا: الاقتصاد اللغوي كجمال مضاد للهيمنة
لا تُغرق القصيدة في الزخارف اللفظية أو التشبيهات الكثيفة؛ بل تميل إلى البساطة الدقيقة، وهذه البساطة ليست فقرًا لغويًا؛ بل موقفًا جماليًا واعيًا: رفضٌ للبلاغة الذكورية التي تُعلي من الفصاحة كرمز سلطة، تقول الشاعرة:
ولا تبني لك مقامًا صغيرًا في ذاكرتها
تجاوزتك قبل أن تكمل كأس عصير المشمش
إن الاقتصاد اللغوي هنا يُعيد تعريف الجمال بوصفه صفاءً لا مبالغة، وقولها "كأس عصير المشمش" تفصيل بسيط، منزلي، لكنه يختزل عالمًا من الهدوء والتحوّل، واللغة اليومية تُصبح لغة شعرية، والأنثويّ المنزليّ يتحوّل إلى فضاء فلسفيّ، وهذا أحد أهم إنجازات الكتابة النسوية المعاصرة: رفع التفاصيل البسيطة إلى مستوى الميتافيزيقا، فالمطبخ، والمقهى، والمشهد العابر، تُصبح رموزًا لتحولات وجودية عميقة.
رابعًا: المفارقة الجمالية بين الحضور والغياب
إن الفن العظيم في الشعر هو التوازن بين ما يُقال وما يُسكت عنه، والقصيدة تبني جمالها على اقتصاد المشاعر لا على فيضها، وكل جملة قصيرة، مكبوحة الإيقاع، توحي بأن هناك بحرًا من العاطفة تمّ كبحه بوعي، تقول الشاعرة:
ولا تفتقدك،
ولا حتى تكرهك
تتحول المفارقة هنا إلى أسلوب جمالي نسوي خالص: الغياب نفسه يصبح جمالًا، إنها لا تعلن الحب، ولا الكراهية، لأن الوعي تجاوز الثنائية، وبهذا، تنتقل القصيدة من جمال الانفعال إلى جمال التعالي الهادئ، ذلك النوع من الجمال الذي لا يطلب الإعجاب؛ بل الاحترام، والقصيدة تُجسّد ما يمكن تسميته بجمال النضج: صمتٌ مشعّ، كأن الكلمات لا تحتاج إلى زخارف لأنها تملك الثقة الكاملة بمعناها.
خامسًا: الصورة الشعرية الجديدة كجمال أنثويّ واعٍ
الصورة الشعرية هنا لا تعمل وفق النموذج الذكوري (التشبيه، التغزل، التهويم)؛ بل وفق نموذج سرديّ جديد: الكتابة كصورة، والمرأة لا تصف الجمال؛ بل تُنتجه بالفعل الكتابي، كما في قولها "وكتبت رواية جديدة بطلها "أنت"، أن تكون الكتابة هي الصورة الختامية يعني أن الجمال الأنثوي لم يعد في العين أو الجسد؛ بل في القدرة على الخلق، ومن منظور نسوي فني، هذه النقلة تمثل ثورة داخل الجمال ذاته؛ فالجمال لم يعد أن يُكتَب عنها؛ بل أن تكتب هي، إنها استعادة للمقدّس الفني في يد المرأة؛ أي أنها لا تكتفي بأن تكون موضوع الفن؛ بل تصبح مصدره، وهكذا تختتم القصيدة بتحوّل جمالي جذري من أنوثة مُمثلة إلى أنوثة خالقة.
سادسًا: جمال الصدق بديلًا عن التجميل
ربما أجمل ما في القصيدة هو غياب الزخرف، فاللغة نزيهة، ولا تتصنّع الإبهار؛ لأن الجمال هنا نتاج صدق التجربة لا براعة الصنعة، إنها كتابة تشبه نبرة امرأة تتحدث من داخل وعيها؛ بلا قناع؛ بلا استعطاف؛ بلا استعراض، ومن ثم فإن القصيدة تجسّد ما يسميه النقد النسوي بالصدق الجمالي، حيث تتحول اللغة إلى مرآة للحرية، لا لعرض الذات.
من خلال التحليل السابق، يمكن القول إن القصيدة أنجزت ثورة جمالية موازية للثورة الفكرية؛ فالإيقاع الهادئ صار بديلاً عن الانفعال الذكوري العالي، والتكرار صار طقسًا للتحرر، لا وسيلة للرثاء، واللغة اليومية أصبحت لغة سيادة لا لغة ضعف، والصورة الختامية أعادت تعريف الفن بوصفه ملكية نسوية، والصمت والاختزال تحوّلا إلى جمال مكتمل الذات، وبذلك يتحقق ما يمكن تسميته بالكتابة النسوية الجمالية: كتابةٌ لا ترفع شعارات؛ بل تُجسّد الوعي عبر البنية نفسها، إنها قصيدة لا تكتفي بالحديث عن الحرية؛ بل تُمارسها في اللغة.
خاتمة
في ضوء المحاور التحليلية السابقة، يتضح أن قصيدة "امرأة لا تحبك بالمرة" لا تُقرأ بوصفها نصًّا عن الحب أو النسيان فحسب؛ بل بوصفها نصًّا فلسفيًّا في أنوثة ما بعد الفقد، حيث تتحول المرأة من كائنٍ عاطفيٍّ منكسر إلى ذاتٍ واعيةٍ مكتفيةٍ بذاتها، ومن موضوعٍ للخطاب الذكوري إلى منتجةٍ للمعنى ومؤسسةٍ لخطابها الخاص. إن ما ينجزه هذا النص ليس مجرّد تحوّلٍ وجداني؛ بل انقلاب في بنية الوعي اللغوي والثقافي الذي لطالما صاغ صورة المرأة في التراث العربي الحديث والمعاصر؛ فالقصيدة تقيم، من خلال هدوئها الظاهري، ثورة داخلية ناعمة تمارسها اللغة ضد نظامٍ رمزيٍّ قائم على التملك والمراقبة، وتبدأ هذه الثورة من تفكيك مركزية الذكر عبر نفي سلطته على الانتباه والذاكرة، ثم تمتد إلى تحرير العمل العاطفي من طبيعته الخدمية المفروضة على النساء، وتعيد تعريف مفاهيم الحب والشرف والولاء والكرامة ضمن منظورٍ نسويٍّ جديد لا يُقاس فيه عمق المرأة بوجعها؛ بل بوعيها، ومع هذا التحول، ينتقل النص من رثاء العاطفة إلى احتفاءٍ بالاستقلال الوجداني، ومن غناء الفقد إلى صمت السيادة.
لقد كشفت القراءة الفلسفية أن القصيدة تعمل على مستوى عميق من التصوّف الوجودي؛ فالنفي المتكرر "لا يعنيها… لا تفتش… لا تفتقدك…" لا يُمثل رفضًا عدميًا؛ بل عملية تنقية معرفية تُعيد تشكيل الذات عبر التخلّي، وكل "لا" تُسقط طبقة من التبعية النفسية، لتصل المرأة في النهاية إلى فضاءٍ من الصفاء الداخلي يمكن تسميته فضاء اللا مرئي المكتفي، حيث تصبح الحرية تجربة داخلية لا تعلن نفسها؛ بل تُمارس كطبيعة ثانية للحياة.
ومن الناحية الجمالية، تجسّد القصيدة وعيها النسوي في شكلها نفسه: الإيقاع الهادئ، والتكرار الإيقاعي المنظّم، والاقتصاد اللغوي، والمفارقة بين الصمت والقول، وكلها أدوات تعبيرٍ تتجاوز البلاغة التقليدية لتخلق جمالًا يقوم على البساطة والسيطرة الذاتية، وهذا الشكل الفني لا يزيّن المعنى بل يتماهى معه؛ فهدوء اللغة هو الوجه الجمالي لنضج المرأة، كما أن التكرار هو الإيقاع الفني للتحرّر التدريجي من سلطة الماضي، وبذلك، تصبح القصيدة نصًّا يمارس الحرية أسلوبيًا كما يعلنها فكريًا.
أما من الناحية الاجتماعية، فإن النص يُعيد مساءلة القيم الثقافية التي تُحدّد علاقة المرأة بالعاطفة والذاكرة، فهو يقوّض فكرة المرأة “الوفية المتألمة” التي يُكرّسها الوجدان العربي كرمزٍ للنقاء، ويقترح بديلًا إنسانيًا أكثر توازنًا: امرأة لا تكره، ولا تشتاق؛ بل تفكّر وتختار، وهذه النقلة تمثل تحوّلًا جذريًا في البنية الرمزية للثقافة العربية؛ إذ تُزيح العاطفة من كونها واجبًا أخلاقيًا إلى كونها خيارًا معرفيًا، وتعيد للمرأة حقها في إدارة انفعالها بوصفه جزءًا من سيادتها لا من طاعتها.
إن ما تصنعه القصيدة، في جوهره، هو إعادة صياغة لمفهوم الأنوثة بوصفها وعيًا لا هوية،
وعيًا يتكوّن في لحظة ما بعد الفقد، حين يتحول الألم إلى معرفة، والذكريات إلى مادة كتابة، والغياب إلى شرطٍ لولادة الذات، والمرأة هنا لا تستعير لغتها من الخارج؛ بل تولّدها من داخل التجربة، فتتحوّل الكتابة نفسها إلى رحمٍ رمزيٍّ للحرية، ولهذا جاء الختام بعبارة "كتبت رواية جديدة بطلها أنت"؛ لتعلن أن الكتابة أصبحت وسيلتها لإعادة توزيع الضوء داخل العالم؛ فالرجل لم يعد مركز السرد؛ بل تفصيلًا في روايةٍ كتبتها هي، لا لتُمجّده؛ بل لتُحدّد موضعه داخل رؤيتها الكاملة.
ومن منظور فلسفي، يمكن القول إن هذه القصيدة تُجسّد لحظة انتقال الوعي النسوي العربي من الاحتجاج إلى الحكمة، ومن الانفعال الثوري إلى الصفاء التأملي، ومن أنوثة المقاومة إلى أنوثة التكوين، تلك التي لا تُخاصم الرجل بل تتجاوزه، ولا تنفي الماضي بل تهضمه، ولا ترفض الحب بل تُعيد تعريفه ليصبح حالة من الوجود لا علاقة بالآخر.
هكذا تتحقق في النص ميتافيزيقا أنثوية جديدة، حيث الهدوء فعل، والصمت لغة، والحرية معرفة، إنها قصيدة تُغلق باب الفقد، لا لتنساه؛ بل لتتجاوزه نحو أفق إنساني أكثر رحابة، تُعلن أن الأنوثة ليست ضعفًا ولا تضادًا مع الفكر؛ بل طريقة أخرى في التفكير: تفكيرٌ بالمشاعر الواعية، وإحساسٌ بالعقل المتأمل، وفي هذا التوازن بين الفكر والعاطفة، والجسد واللغة، والذاكرة والنسيان تتجلّى أنوثة ما بعد الفقد، أنوثة تعرف كيف تُحبّ دون أن تُستعبد، وكيف تنسى دون أن تُنكر، وكيف تكتب لتصنع نفسها لا لتثبتها، وبذلك تُغلق القصيدة فضاءها لا بالنهاية؛ بل بالاكتمال، اكتمال الإنسانة التي اكتشفت أن النضج ليس في التملّك؛ بل في الهدوء، وأن الحرية لا تحتاج إلى صراخٍ لتُسمَع؛ بل إلى صمتٍ يعرف أنه صار الحقيقة.
وفي النهاية حين نقرأ هذه القصيدة بوصفها مشروعًا فلسفيًا-نسويًا، ندرك أن الشاعرة لا تُحاول استعادة الماضي، ولا الانتقام منه؛ بل تؤسّس لزمنٍ جديد في اللغة والوعي؛ فالقصيدة ليست مرثية حبّ؛ بل بيانٌ في معنى الوجود الأنثوي الحرّ، والمرأة التي لم تعد تحتاج أن تُحب لتشعر بأنها موجودة؛ لأنها صارت تُحب وجودها ذاته، لا صورته في عيني الآخر.
لقد كان التاريخ اللغوي للحب، في الشعر العربي خصوصًا، تاريخًا لملكية الجسد والعاطفة، وكان الرجل يتحدث دائمًا عن المرأة الغائبة، المشتهاة، المطيعة، المنكسرة، وهنا، في هذه القصيدة، نرى ما يمكن أن نسميه انقلاب المعنى على ذاته؛ فالمحبوبة القديمة تتكلم، لكن بصوت الهدوء لا الغضب، وبلغةٍ منزّهة عن الاستعطاف، متصالحة مع الصمت، وبذاكرةٍ لا تُقاوم النسيان؛ بل تمنحه حقّ الحدوث.
إن هذه القصيدة تُمارس نوعًا من التصوّف العاطفي الجديد، إنه تصوفٌ لا يزهد في الجسد أو الذكرى؛ بل في الارتباط القهري بهما، إنها تسعى إلى بلوغ اللا احتياج، تلك الحالة العليا من الوجود التي وصفها نيتشه بالخفّة العميقة، حيث يتحرّر الكائن من ثقل الماضي، ويستعيد علاقته بالزمن لا كعقوبة؛ بل كاحتمالٍ مفتوحٍ دائم، إن الفعل المركزي في النص هو "تجاوزتك" وهو لحظة كونية مصغّرة، فهو لا يعني تجاوز شخص؛ بل تجاوز مرحلة كاملة من التاريخ النفسي للمرأة العربية، ومن ثمّ لا يمكن أن نقرأ القصيدة إلا بوصفها إعلان استقلال للوعي الأنثوي في الشعر العربي الحديث؛ إذ تنتقل اللغة فيها من ميدان الغياب إلى ميدان الفعل، ومن رطانة الوجع إلى بلاغة السكون، ومن تمجيد الذكورة إلى تمجيد الذات الكاملة بذاتها.
في ختام هذه القراءة، يمكن القول إن "امرأة لا تحبك بالمرة" ليست مجرد قصيدة، إنها وثيقة وعي، تعبير عن لحظة إنسانية بلغت فيها المرأة نضجها اللغوي والروحي معًا، حيث لم تعد تبحث عن “ضمير المذكر الغائب” في الجملة؛ بل أصبحت هي الفاعل، والمفعول، والعبارة ذاتها.
في هذا النص، يتجلّى ما يمكن تسميته بميتافيزيقا الأنثى المستنيرة: امرأة تمشي في اللغة كما تمشي في الحياة، لا تحمل ظلّ أحد، ولا تخلّف وراءها سوى أثر الهدوء، هدوء المعرفة بعد اكتمال الألم.
